في خطوة استراتيجية تهدف إلى إحداث نقلة نوعية في كرة القدم المحلية، أعلن الاتحاد القطري لكرة القدم في مايو 2025 عن إلغاء “قاعدة 40 ضعف الراتب”، وهي لائحة كانت تنظم عملية تجديد عقود اللاعبين المحليين منذ إقرارها في عام 2015. هذا القرار، الذي يدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من موسم 2025-2026، لا يمثل مجرد تعديل إداري، بل هو تحول جذري في فلسفة إدارة سوق الانتقالات، يَعِدُ بفتح آفاق جديدة للاعبين والأندية على حد سواء، ويضع الكرة القطرية على أعتاب مرحلة جديدة من الاحترافية والشفافية.
ما هي قاعدة “40 ضعف الراتب” وماذا كانت تعني؟
طوال عقد من الزمان، شكلت هذه القاعدة حجر الزاوية في العلاقة التعاقدية بين الأندية القطرية ولاعبيها المحليين. بموجب هذه اللائحة، التي صدرت عبر التعميم رقم 385 لسنة 2015، كان يحق للنادي الاحتفاظ بلاعبه الذي انتهى عقده بشكل شبه تلقائي. فإذا قدم النادي عرضًا لتجديد العقد يتضمن مقدم عقد يعادل 40 ضعفًا من راتب اللاعب الشهري السابق، يصبح اللاعب ملزمًا بالبقاء، وتُغلق أمامه فرصة الانتقال إلى أي نادٍ آخر.
كانت هذه القاعدة بمثابة أداة قانونية تمنح الأندية سلطة قوية للتحكم في مصير لاعبيها، حيث كان العرض المالي كافيًا لتفعيل التجديد دون الحاجة لموافقة صريحة من اللاعب. ورغم أن الهدف المعلن كان منع التضخم المالي في العقود والحفاظ على استقرار الفرق، إلا أنها أثارت جدلاً واسعًا حول مدى عدالتها وتأثيرها على حرية اللاعب في اختيار مستقبله المهني. لقد خلقت هذه القاعدة ما يشبه “الولاء الإجباري”، حيث يجد اللاعب نفسه مقيدًا بناديه حتى لو تلقى عروضًا أفضل من الناحية الفنية أو المادية، مما حدّ من ديناميكية سوق الانتقالات وأدى إلى تكدس المواهب في أندية معينة.
التحديات التي فرضتها القاعدة وأدت إلى إلغائها
مع مرور الوقت، بدأت عيوب هذه القاعدة تتضح بشكل أكبر. فمن ناحية، شعرت الأندية الصغيرة والمتوسطة بصعوبة في مجاراة الأندية الكبرى التي تمتلك القدرة المالية على تفعيل شرط “الـ 40 ضعف” بسهولة، مما أدى إلى اتساع الفجوة التنافسية بين فرق الدوري. ومن ناحية أخرى، أثرت القاعدة سلبًا على طموح بعض اللاعبين الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على الانتقال لتحقيق أهداف رياضية جديدة، مما قد يؤدي إلى تراجع الدافع والحماس لديهم.
كما أن هذه الآلية لم تكن تتماشى مع الممارسات العالمية الحديثة التي تشجع على حرية حركة اللاعبين كعنصر أساسي في تطوير اللعبة وزيادة تنافسيتها. لذلك، جاء قرار الإلغاء كاستجابة ضرورية لتلك التحديات، ورغبة في مواءمة اللوائح المحلية مع معايير الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”.
مزايا الإلغاء: سوق أكثر حرية وعدالة
يأتي قرار الإلغاء ضمن حزمة من التعديلات التي تهدف إلى خلق سوق انتقالات حر وديناميكي. وتتعدد الفوائد المترتبة على هذا القرار، لتشمل طرفي المعادلة: اللاعبين والأندية.
بالنسبة للاعبين:
- حرية الاختيار والانتقال: الميزة الأبرز هي استعادة اللاعب لحريته الكاملة عند انتهاء عقده. اللاعب الذي يتجاوز عمره 23 عامًا لم يعد مقيدًا بعرض ناديه السابق، بل أصبح حرًا في التفاوض مع أي نادٍ آخر، مما يمنحه قوة تفاوضية أكبر ويفتح أمامه فرصًا جديدة لتطوير مسيرته.
- تحفيز للتطور: يخلق هذا القرار بيئة تنافسية صحية. فاللاعب الذي يسعى للانتقال إلى نادٍ أكبر أو ينافس على الألقاب، سيكون لديه دافع أكبر لتقديم أفضل مستوياته، مدركًا أن أداءه هو مفتاح مستقبله.
- بيئة عمل أكثر احترافية: يعيد القرار بناء العلاقة بين اللاعب والنادي على أسس أكثر توازنًا، تقوم على الرغبة المتبادلة والتفاوض الحر بدلاً من الإلزام القانوني.
بالنسبة للأندية:
- سوق انتقالات أكثر عدالة: سيسمح إلغاء القاعدة بتوزيع المواهب المحلية بشكل أكثر طبيعية بين الأندية. الأندية لن تكون مجبرة على دفع مبالغ ضخمة للاحتفاظ بلاعب لا يرغب في البقاء، وفي المقابل، ستتمكن من استقطاب لاعبين من أندية أخرى دون قيود مبالغ فيها.
- ضبط مالي ومرجعية جديدة: يتزامن إلغاء القاعدة مع وضع آلية جديدة لتحديد سقف للقيمة السنوية للعقود، حيث ستكون هناك مرجعية واضحة من مؤسسة دوري نجوم قطر لتحديد أسعار اللاعبين. هذا الأمر يهدف إلى ضمان عدالة السوق وتفادي التضخم المالي غير المبرر، مما يساعد الأندية على التخطيط المالي السليم.
- تعزيز التنافسية: من المتوقع أن يؤدي هذا القرار، إلى جانب زيادة عدد اللاعبين الأجانب، إلى رفع مستوى المنافسة في الدوري، حيث ستسعى كل الأندية لتدعيم صفوفها بأفضل العناصر المتاحة، مما ينعكس إيجابًا على قوة البطولة بشكل عام.
نظرة نحو المستقبل: تحديات وفرص
إن إلغاء قاعدة “40 ضعف الراتب” ليس مجرد نهاية للائحة قديمة، بل هو بداية لمرحلة جديدة في كرة القدم القطرية. مرحلة عنوانها الحرية، التنافسية، والاحترافية المطلقة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه المرحلة يعتمد على كيفية إدارة التحديات المصاحبة. التحدي الأكبر يكمن في التطبيق الصارم للوائح المالية الجديدة وآليات سقف الرواتب لضمان عدم تحول الحرية إلى فوضى مالية، ومنع الأندية من الدخول في سباق تضخمي قد يضر باستقرارها المالي على المدى الطويل.
في المقابل، تفتح هذه الخطوة الباب أمام فرص هائلة. فالأندية مطالبة الآن بالتركيز بشكل أكبر على بيئتها الداخلية، وتطوير أكاديمياتها، وتقديم مشاريع رياضية جاذبة للاعبين، لأن المال وحده لن يكون كافيًا للاحتفاظ بالمواهب. هذه الخطوة الجريئة تبشر بمستقبل أكثر إشراقًا لدوري نجوم قطر، حيث يصبح الأداء المتميز في الملعب، والرؤية الرياضية الواضحة، هما المعيار الحقيقي الذي يحدد قيمة اللاعب ومستقبله، ويرسم ملامح المنافسة في الكرة القطرية لسنوات قادمة.
محمد إبراهيم احمد
خبير قانوني
خبير قانوني